المعوقون في كربلاء حبيسو منازلهم

المقاله تحت باب  قضايا
في 
10/06/2011 06:00 AM
GMT



نقاش |
في بيت متواضع لا يحتوي سوى على ثلاجة قديمة تبرع بها أحد المحسنين، وأشياء أخرى بسيطة من أثاث وأوان، تقبع أم مالك مع أبنائها الثلاثة، أكبرهم مالك وعمره 17 سنة وأصغرهم نصيب 5 أعوام.

تواضع المكان ليس العلامة اللافتة الوحيدة في يوميات عائلة أم مالك، التي تحملت أعباء أبنائها الثلاثة بعد وفاة زوجها قبل عامين بسبب انسداد الشرايين، فالأبناء كلهم معاقون بشكل مزدوج، إذ هم من البكم، فضلا عن تدني مستوى نموهم العقلي.

"الصمت يلف منزلنا باستمرار، فهم لا يتكلمون ولا يفهمون، وأنا لا أجد من أتكلم معه"، تقول أم مالك بمرارة.

لا تدري السيدة الأربعينية حقيقة أسباب العوق الحسي والذهني الذي أصاب أبناءها الثلاثة، فهي لم تتزوج قريبا لها كما هو شائع في المجتمعات الكربلائية المحافظة، لكن آراء الأطباء المتخصصين ممن عاينوا حالتهم رجحوا وجود عوامل وراثية عند أحد الأبوين.

لحد اليوم، لا توجد إحصائية دقيقة عن عدد المعوقين في كربلاء و العراق عموما، أو درجات إعاقتهم، غير أن المؤشرات العامة تؤكد تزايدهم.

آخر دراسة لوزارة الصحة العراقية صدرت قبل عامين قدرت عدد المعوقين في العراق بأكثر من مليون شخص بينهم 43600 من معاقين بسبب إصابات مباشرة في الحروب. لكن هناك من يعتبر الأرقام التي وردت بدراسة الصحة قليلة قياسا بالأعداد الحقيقية للمعاقين، كجمعية المعوقين العراقيين التي قدرت عددهم بمليون ونصف معوق.

ويعزو مدير مستشفى الولادة بكربلاء صباح الموسوي معظم حالات العوق والولادات المشوهة إلى حالات الزواج بين الأقارب المنتشرة بكثافة، لكن بشكل رئيسي إلى ما تعرض له العراق من أسلحة خلال الحروب التي خاضها مع إيران في الثمانينات، والولايات المتحدة بين 1991 و2003، مضيفا أن "الدراسات القليلة المتوفرة حاليا ليست كفيلة بأن تعطينا جوابا قاطعا".

كما أشار وزير البيئة، سركون صليو إلى أن البيئة العراقية قد تعرضت لتلوث إشعاعي بنسب ما، وقال خلال زيارته إلى كربلاء الشهر الماضي "لدينا العديد من المواقع الملوثة بأشعة اليورانيوم في عدد من المحافظات منها البصرة وكربلاء".

لكن صليو بين انه لا يمكنه الحديث عن أرقام وتفاصيل علمية بهذا الصدد، وقال"لا املك تقارير وطنية دقيقة عن هذا الموضوع" مضيفا أن العراق بحاجة لمساعدة دولية في هذا المجال.

مدير عام دائرة صحة كربلاء، الدكتور علاء حمودي بدير قال إن "هناك ولادات مشوهة غريبة حدثت في السنوات الأخيرة" تمت في مستشفى الولادة بكربلاء.

لعل أشدها تشوها وغرابة بحسب حمودي، هي أربع ولادات كانت مصابة بداء السمك القاتل، حيث تظهر بقع ملونة على جلد المولود، وتكون أصابع يديه وقدميه لصيقة بعضها ببعض. وأضاف المسؤول أن عشرات الحالات الأخرى تحدث سنويا في كربلاء، يولد فيها أطفال بأعضاء ناقصة أو مضاعفة، حيث اكتشف والد أحد الصغار ويبلغ عمره سنتين على سبيل المثال قبل أسابيع إن ابنه يحمل أربع كلى.

وفيما تتعدد الأسباب التي تقف وراء حالات العوق، تبقى النتيجة واحدة بالنسبة للمعوقين، هي تفاقم مشكلاتهم بمرور الوقت في مجتمع ما زال ينظر بدونية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.

فأم مالك مثلا، وهي أم لثلاث معاقين كما تقدم، تشعر بالضيق حين التحدث عن علاقتها بالجيران والأقارب، مشيرة إلى أن بعضهم يتشاءم منها ومن أبنائها، فهم "لا يريدون لأنسفهم الاختلاط بأشخاص قليلي الحظ"، وهي تشعر بوحدة قاتلة، وتقول "أنا لا أستطيع التحدث مع أبنائي فهم مختلون عقليا، كما لا يزورني أحد".

الطبيب المتخصص بأمراض الأطفال سلطان عيسى، والذي قادنا إلى حالة أم مالك، أشار إلى أن المجتمع بشكل عام ما زال ينظر إلى الأشخاص المعوقين نظرة "تحقير"، لافتا إلى أنهم "يعانون من الازدراء ومن الإهمال والتجاهل".

ويروي الطبيب كيف أن بعض الأسر أقدمت على تقييد أبنائها المعوقين أو ربطهم بحبال لمنع خروجهم من المنزل ومنع الآخرين من رؤيتهم، وأضاف أن "عددا كبيرا من ذوي المعوقين مازالوا يخجلون من أبنائهم ويخشون الخروج معهم أو حتى الاعتراف بوجودهم".

ولا تتوقف الأضرار النفسية التي يواجهها المعوقون على مرحلة الطفولة، بل تكبر معهم كلما كبروا وانفض الأقرباء من حولهم بسبب الموت أو لأسباب أخرى.

وتعتقد أم مالك أن أبناءها سيرمون في الشارع في حال عجزت عن رعايتهم أو غيبها الموت، وتقول "لا أحد سيقبل برعاية ثلاثة معوقين من بعدي وإن كان قريبا لهم".

هذا القلق المصيري يشاركها فيه خيري عزيز أيضا. فخيري، وعمره 35 عاما يشعر بالخوف الشديد كلما تقدم به العمر.

لا يملك خيري عملا، ولا يوجد أي ضمان معيشي له من الدولة، كما أنه غير قادر على العمل لأنه يعاني من شلل محوري في أطرافه السفلى.

"أواجه مشكلة في الحركة كلما تقدمت في العمر وأخشى أن أصبح مقعدا في نهاية المطاف" يقول خيري. فبعد أن توفيت أمه قبل عام، بات يشعر أن المقربين منه الحريصون عليه صاروا يغادرون الحياة واحدا تلو الآخر.

وفي الوقت الحاضر يقيم هذا الشاب مع أسرة أخيه الذي يصغره سنا، "لكنني لا أدري إلى أي مدى يمكنهم تحملي حين يكبر أبناؤهم" يضيف.

يفتقر خيري إلى أصدقاء، ويقضي معظم وقته في المنزل، ولا يخرج إلى لضرورات قصوى "إذ أن وسائل النقل المتوفرة في العراق لا تراعي ظروف ذوي الاحتياجات الخاصة" كما أن الحصول على كرسي كهربائي تطلب منه مبلغ 500 ألف دينار عراقي أي حوالي 425 دولار أمريكي تدبرها بصعوبة بالغة.

ومنذ بداية العام خرج من منزله مرتين، راجع فيهما دائرة الرعاية الاجتماعية للاستفسار عن معاملة له فيها. ويقول أن "الموظفة تحدثت معي بنفور شديد"، في حين أشار له موظف أخر أن يصعد إلى طابق أعلى بالرغم من عدم توفر التجهيزات التي تمكنه من ذلك، كالمصاعد أو السلالم الكهربائية.

ولا توجد في كربلاء دار لرعاية المعوقين عامة أو أهلية، أو مرافق عامة مؤهّلة لاستقبالهم، ومعظمهم لا يحصلون على التعليم الكافي، كما تخلو المدينة والعديد من المدن الأخرى في البلاد من أنشطة وفعاليات تقام بشكل منتظم لاحتضانهم. وبدا أن المعوقين في المجتمع العراقي أناس منسيون عليهم أن يواجهوا قدرهم منفردين.

ويعتقد خيري أن الدولة "التي تصرف الملايين هنا وهناك لا تقوم بواجبها"، فالكثير من المعوقين ينامون في المساجد، أو يفترشون الطرقات والأرصفة يتسولون، "ولو كانوا يحصلون على رعاية من الدولة من قبيل تأسيس دور لرعايتهم او تأهيلهم اجتماعيا وتوفير فرص عمل لمن يقدر على العمل منهم لما ظلوا يطوفون في الطرقات".

التشريعات العراقية لا تحتوي بدورها على أي نص يوجب رعاية هذه الشريحة من المجتمع العراقي، باستثناء المادة 32 من الدستور التي تنص على أن "ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع، وينظم ذلك بقانون". لكن هذه المادة الدستورية بقيت دون تفعيل طوال أكثر من ثماني سنوات برغم العديد من المطالبات والمناشدات التي قام بها معوقون.

وضمن برنامج شبكة الحماية الاجتماعية الذي أطلقته في 2006، شملت الدولة العراقية المعوقين بتخصيصات شهرية تصرف لهم بشكل دوري. لكن هذا المرتب لا يعني شيئا بالنسبة لخيري، فهو يتقاضى 50 ألف دينار أي ما يعادل 40 دولارا شهريا تدفع له كل أربعة اشهر وأحيانا أكثر.

ويؤكد أن هذا المبلغ قليل جدا، ويراه غير عادلا، ولا يكفي حتى لمتطلباته العلاجية، فهذا المبلغ بالكاد يعادل ثمن زيارة واحدة إلى طبيب وشراء بعض الأدوية. ويتسائل "هل من المنصف أن يتقاضى عضو البرلمان ما يزيد على 35 ألف دولار شهريا بين رواتب ومخصصات مدى الحياة وأتقاضى أنا وسواي 40 دولارا".

بدوره أكد مكتب الهلال الأحمر العراقي بكربلاء إنه يقدم من وقت لآخر مساعدات للمعاقين على شكل أشياء عينية أو مستلزمات طبية، قال أنها هبات من جهات إنسانية دولية أو محلية. لافتا إلى توزيع العشرات من الكراسي الخاصة بالمقعدين في السنوات الأخيرة. وقال "وزعناها بموجب مسح ميداني على الأشخاص الذين ليس لديهم إمكانية لشرائها من الأسواق".

وأوضح كرار عامر الناطق باسم مكتب الجمعية، أن هذه المساعدات هي بمثابة تبرعات من قبل الهلال الأحمر أحيانا، وفي أحيان أخرى من قبل جهات مانحة، ولا يوجد شيء ثابت يمكن أن يقدم لخيري أو لسواه من المعوقين بشكل شهري، وقال "لعل تقديم المال بشكل منتظم من مسؤولية جهات حكومية أخرى، نحن نقدم المساعدات فقط".